عاصفة الحرب الدافئة

مصطلح الحرب الدافئة من الواقع السياسي والحربي الحالي قد تخطى قيم الحرب الباردة ومعاييرها المخابراتية ومخارجها المعتدلة بعض الشيء إلى الحرب الدافئة وهي (( الواقع الحربي المركب الذي يمتاز بسخونة مرتفعة تفوق الحرب الباردة بهمجية وتوحش تفوق الصدمة والرعب في الحرب النظامية، وتستخدم فيها المفاعيل الحربية الدولية الحاكمة قدرات القوة النظامية الساندة والأدوات المسلحة الغير متناظرة  وإن اختلفت مسمياتها وتعددت رايتها المزيفة لتبرر سياسة الوصول والتواجد الحربي من جهة والسياسي والاقتصادي من جهة أخرى، ويستخدم فيها السلاح بكافة أنواعه، العتاد بكافة أنواعه، المتفجرات، أجهزة الاتصالات، المستشارين، المتطوعين المتقاعدين من الشركات الأمنية الخاصة كمدربين، الدروع الواقية، الروبوت الحديثة المتعدد الأغراض، الكلاب البوليسية، الحواسيب وشاشات العرض وكاميرات المراقبة، السيارات المصفحة، مراكز الدراسات، الصناعة الإعلامية بكافة عناصرها، صناعة الأفكار المتطرفة والهدامة )) إنه بالحقيقة سوق تجاري للحرب والأمن من جهة وأدوات تحقق متطلبات الحرب الدافئة التي لا تنطبق عليها القواعد الآمرة في القانون الدولي للحرب.

لم تعد القيم الحربية التي تدرس في المعاهد والأكاديميات العسكرية المختصة تواكب بيئة حرب غير متوازية، خصوصا بعد اتساع ظاهرة الجيوش المبعثرة الغير حرفية، وبروز جيل الجيوش المرتزقة والبيارق المزيفة من المليشيات والتنظيمات الإرهابية المتوحشة، وكذلك اندثار خطوط التماس الحربي، واندثار الحدود السياسية  لدول عربية متعددة، وتلاشي مفهوم الردع العسكري المنظم وفق فلسفة توازن التوافق والاضداد، وكان المجتمع العسكري الدولي قد اعتنق في حقبة التسعينات عقيدة ((خصخصة الحرب والجيش الذكي)) الذي يعتمد على كثافة ودقة القوة النارية الجوية والأرضية والبحرية المتطورة، ومكننة الحرب، وتجزئة القدرة النووية الى أسلحة محدودة، ناهيك عن امتلاك الهيمنة الفضائية ضمن سياق الحرب الالكترومعلوماتية التي تستطيع من خلالها ان تمسح ساحة المعركة ومسرح العمليات بدقة  متناهية، وقد أفرزت هذه العقيدة جيوش بشرية ذات خبرة ومهنية سائبة اضطرت للعمل في مجال الامن وخصخصة الحروب والتنظيمات المسلحة المتطرفة.

تعد الحرب أبرز أدوات السياسة الصلبة وباستخدام القوة الخشنة، ولعل قرار الحرب من أصعب القرارات عندما يكون هناك مسؤول يتخذ قرار الشروع بالحرب، لأن شن الحرب  أمر متاح وسهل وإيقافها أمر صعب للغاية مهما كان شكل الأطراف، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الحرب صدام طاحن للقوة واستنزاف منظم للموارد وتخللها ضحايا بشرية قد يصعب احصائها، ناهيك عن الارتدادات المجتمعية والمتغيرات الجيوسياسية التي تطرأ على الرقعة الحربية.

أضحت الحرب في عالمنا المعاصر مختلفة كثيرًا عما سبق رغم استخدام بعض الاستراتيجيات العسكرية السابقة، ولعل ما نشهده اليوم هو نتاج واضح لاستراتيجية خصخصة القوة والحرب مطلع التسعينات ودخول العامل المدني لهيكل القوة ومشاركته الحروب بمختلف مدياتها، وكذلك منهجية الجيش الصغير الذكي الذي اعتمد مطلع التسعينات للجيوش والذي أفقد الجيوش الكتلة الحيوية البشرية المهنية الخبيرة واستعاض عنها بالأدوات التكنولوجية المتطورة، ومن هذا المنحنى والانعطاف الاستراتيجية السياسية العسكرية

برزت عوامل ومقومات (الحرب الدافئة) التي تختلف في سياقاتها وأمدها عن الحرب النظامية المعلنة والمحددة بأهداف وخطوط تماس وجبهات وجيوش وفق نظام المعركة، بينما تعتمد الحرب الباردة على الحرب الشبحية وحرب المخابرات السرية وحرب الاقتصاد المضاد  وخندقة المعسكرات السياسية، ومن هنا نجد أن حروبنا المعاصرة هلامية الوقت تفتقر للرؤيا الاستراتيجية والاطار السياسي الفاعل والدور الاممي القانوني، وبلا شك إنها تفتقر للحسم العسكري  والسياسي، ويدور في فلك الحرب الدافئة دول ومنظمات وتنظيمات مسلحة وجيوش نظامية وشركات ساندة وكذلك عصابات الجريمة المنظمة التي تشغل المنطقة الرمادية في مشهد اللايقين المضلل والمعتمد في منهجية الاقتصاد الأسود الذي بات يجتاح الاقتصاد الرسمي العالمي وينهكه.

يفتقر الكثير من  الخبراء للقراءة الواقعية والصحيحة للمشهد العراقي الساخن في أحداثه والبارد في انهياره والدافئ في أداوته، لقد شكل العراق على الدوام وعبر التاريخ صمام الأمان في الشرق الأوسط ودلالاته الاستراتيجية كثيرة، ولعل غزو العراق عام 2003م كسر أقفال الأمان وفتح مسرح الإرهاب من أوسع أبوابه  بغض النظر عن هوية وشكل النظام الحاكم، ولم يكن قرار غزو العراق متسرعًا أو فوضويًا كما يرى البعض بل إنه قرار كارتل الحرب المتلاعب بالأمن والسلم الدولي، ويصعب تشخيص هذا الكارتل الحربي بدقة ولكن الأصابع الخفية التي تتحكم برقع الشطرنج ذات أهداف متعددة، في نظرة سريعة للشرق الأوسط قبل 2003 وما بعده وفحص للمؤشرات الرقمية والبصمات النوعية نجد أن العراق هو المفتاح الاستراتيجي الذي تعمد صناع قرار الغزو استهدافه لبدء عصر الحرب الدافئة التي تنتقل من بلد عربي لآخر وبشكل سريع وبأحداث متشابه بغية توسيع سوق (الحرب الدافئة) الذي يدر عوائد مالية خرافية تفوق عوائد الأمن والسلم الدولي، وبنفس الوقت يحقق حزمة أهداف ثانوية تتسق بالاستراتيجية الدافئة في المنطقة.

العراق كان ولايزال مسرحًا مزمنًا للحرب الدافئة من خلال حزمة الحروب والحصار والغزو وتفكيك الدولة واستبدالها بنظام الطوائف والمليشيات الذي أفرز خمس أو ست موجات للتطرف الطائفي التي أحرقت الكتلة الحيوية المجتمعية بعد عسكرة المجتمعات، وقضمت الجيوبولتيك العربي وبشكل مخيف ناهيك عن حروب المشاطئة للخليج العربي والتوغل الإقليمي الذي يرفع رايات الحرب المزمنة عبر أدوات مسلحة تحقق الوجود الذكي، وأحيانا الوجود المباشر كما في العراق وسوريا وليبيا ولبنان واليمن وبلا شك أصبحت الحرب في العراق حرب مزمنة حرب رمال متحركة تفتقر للحسم  واستعادة الأمن والسلم فيه.

بعد انهيار صمام أمان الشرق الأوسط ((العراق)) انتشرت الفوضى المسلحة وتناسلت المليشيات والتنظيمات الإرهابية لتدشن مسرح (الحرب الدافئة) وبتكتيك (الحرب المركبة) من أوسع أبوابه خصوصًا إذا علمنا أن هناك ما يقارب 99 تنظيم إرهابي مسلح طائفي غير نظامي يدار عن بعد ليشغل مسرح الحرب المركبة في رقع حمراء مختلفة غالبيتها في الشرق الأوسط، ومن الملفت للنظر أن الجيوش الذكية لم تتمكن من تحقيق حسم ونصر حربي فعلي على الأرض طيلة هذه المدة؛ بل ذهب كارتل الحرب الدولي  لإشراك قطعات مجزئة لإسناد قوى لا متناظرة (الحرب المركبة) لتؤسس لمرحلة خطيرة جدًا يصعب السيطرة عليها “الحرب المركبة” وكما يبدو أن كتلتها الحيوية من المليشيات المختلفة والتشكيلات الغير نظامية التي أدخلت العراق وسوريا واليمن وليبيا والمنطقة في أتون حرب طائفية إقليمية، ونزاعات لها أول وليس لها آخر؛ ولعل الحرب على الإرهاب  بلباسها الجديد داعش كانت تؤكد كل ما ذهبنا إليه من نظرية الحرب الدافئة التي أصبح العراق في عمق عاصفتها، وحتى اليوم الحسم الحربي هلامي ويصعب التخمين في ظل غياب الواقعية والتحليل المنهجي لظاهرة الإرهاب وتمدد القوى اللامتناظرة على حساب الدول وأمنها ومجتمعاتها.