26 Aug
26Aug

الأصول الفكرية الغربية للتجزئة العربية

مقدمات الاستهداف

أ.د/ قيس النوري

لكي نستقرئ الجديد في السياسات الغربية تجاه الوطن العربي، استقراء موضوعي، لابد من العودة إلى الأصول الفكرية وراء تلك السياسات، لأن الجديد يولد في شق مهم منه من رحم القديم، وفي شق آخر من المستجدات التي تطرحها الأحداث وتطوراتها، بمعنى هناك ثابت وهناك متغيرات، والثابت هنا هو الأصول الفكرية (المنطلقات)، والمتغير هو ما يفرزه المستجد ليطوع ويصب في خدمة وديمومة الثابت.

ولعل من أبرز الثوابت في الاستراتيجيات الغربية في ما يتعلق بتعاملها مع أجزاء الوطن العربي، يتمثل بالإصرار على ديمومة الفعل السياسي المنظم باتجاه تعميق حالة التجزئة وترسيخها بصيغ وحدات سياسية وكيانات لا تملك بمفردها عناصر القوة الكافية للدولة القوية المتمرسة، مفتعلة في الوقت نفسه (وفق سياسات محسوبة) حواجز متعددة عملت على تكريسها وصولا بها إلى الدولة القطرية التي تبلورت واتضحت معالمها عقب الحرب العالمية الأولى بالخطوط الحمراء التي نعرفها، ولغرض فهم أبعاد سياسات الغرب في عالمنا المعاصر ، لابد لنا من العودة إلى الأصول الفكرية المؤسسة لها، تلك الأصول الفكرية التي عبرت عنها التنظيرات الغربية التي استندت إليها مجمل الحركات الاستعمارية وما أفرزته من نتائج تجزيئية يعيشها ويعاني منها العرب، وسوف يعانوها مستقبلا في حال غياب المدركات الضرورية للوحدة كرد عملي وحيد لبناء المستقبل .

إن التجزئة كانت دومًا هدفًا أساسيًّا تمحورت حوله كتابات المفكرين الغربيين عند تناولهم الشرق بشكل عام، والوطن العربي بهويته العربية الإسلامية بشكل خاص، لأهداف ومبررات عديدة كانت بدايتها أهمية الموقع بأبعاده الاستراتيجية، ومن ثم لتصاغ الأهداف ذاتها في العصر الحديث لاعتبارات أملتها طبيعة التطور الذي وصلت إليه حضارة وتقدم الشمال الغني ومستلزماته الضرورية، وفي المقدمة منها الطاقة.

بالعودة إلى الجذور نجد أن الكتابات الموضوعية التي اتسمت بها دراسات الغربيين عن العرب في القرن الثامن عشر، كانت قد ارتبطت ولا سيما في المراحل المتأخرة منه، بمتطلبات التوسع الاستعماري الأوروبي، فقد انتهت في الواقع إلى تكوين عقل جبار ، مثل عقل فولني (Volney) الذي يشكل كتابه رحلة في سوريا ومصر عام 1787م عملا فكريًا قائمًا على التحليل الدقيق للجوانب السياسية والاجتماعية، لكنه يصب كنصائح في عصب التوسع الأوروبي بقدر ما كان مشحونًا بالروح العدائية التحريضية تجاه العرب والإسلام كدين، ثم ينتهي إلى اعتبار الوطن العربي مكاناً مرشحًا يحتمل أن تتحقق فيه الطموحات الاستعمارية.

مع مجيء حكومة الإدارة تتجدد آمال فرنسا في مد نفوذها إلى مناطق أخرى من العالم، بما فيها الوطن العربي، وكان بطل هذه الآمال نابليون الذي قام بالحملة الفرنسية عام 1798م، وينبغي أن نتذكر أن فولني هو الذي كان من الناحية المبدئية قد حضّر للحملة المذكورة، باعتماد نابليون اعتمادًا كبيرًا في حملته تلك على دراساته، وهذا ما يؤكد المضمون التوسعي لتلك الدراسات.

أما شاتو بريان فيقول: (لم تدر الحروب الصليبية حول أنفاذ كنيسة القيامة حسب، بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر على هذه الأرض).

إن الانتصار هنا يعني الاستحواذ على خيرات هذه الامة التي تفيض أرضها لبنًا وعسلا، وهو بهذا لا يخرج عن الأساس الذي وضعه البابا أوربان الثاني عام 1095م في خطبته بمدينة كليغمو جنوب فرنسا لحث الصليبيين على التوجه إلى بيت المقدس عندما قال: (ليست هذه الحرب لاكتساب مدينة واحدة فقط، بيت المقدس، بل هي لكسب أقاليم أسيا كلها مع غناها وخزائنها التي لا تحصى، فاتخذوا وجهة القبر المقدس، وخلصوا الأراضي المقدسة من أيدي المختلسين، وأنتم املكوها لذواتكم، فهذه الأرض كما قالت التوراة تفيض لبنًا وعسلا).

وشاتو بريان لم يتردد في القول بأن الفتح الغربي للشرق ليس فتحًا، بل حرية، والشرق في نظر لامارتين يولد من جديد، وتمتلك أوروبا الحق في حكمه: (هذا النمط من الحكم محددًا بهذه الطريقة، ومؤسسًا بوصفه حقًا أوروبيًا، سيتكون بشكل رئيس من حق احتلال أرض أو أخرى، وكذلك الشواطئ من أجل إما أقامة مدن حرة هناك، أو مستعمرات أوروبية ومرافئ تجارية)

إن طبيعة وجوهر السياسات الغربية في الشرق والوطن العربي تحديدًا، تنطلق من هذا الفكر المؤسس الذي ينظر إلى  الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها ثقافه عدوة، وهذا العدو لابد من محاربته واحتلال أرضه وتجزئتها كلما أستطاع الفكر الاستعماري سبيلا إلى ذلك، هذا كله ينطلق من نظرة استعلائية وإحساس عنصري بالتفوق جوهره ودوافعه (المركزية الغربية) تجاه الأطراف، وضمن هذا السياق نستطيع أن نفهم احتلال فرنسا للجزائر (1830م) وإنجلترا لعدن (1839 ) والتخطيط لاحتلال مناطق أخرى من الوطن العربي لاسيما بعد الجهود الاستكشافية التي قام بها المختصون وبشكل خاص عالم الانثروبولوجيا بوركا ردت (Burckhardt) الذي طاف الجزيرة العربية والنيل. 

كان الفكر الغربي بشقه الاستعماري متحفزًا على الدوام لتطويق أية بادرة نهوض على الأرض العربية، بغض النظر عمن يتولاها، فهي خطر على الحضارة الغربية، وهذا الخطر يستوجب التحريض بشن الحرب لا جهاض هذه البادرة، ومن ثم فرض منطق الغرب وتوجهاته، والهدف دائما الاستحواذ، وقد عبر عن هذا الأمر بدقة المفكر الاقتصادي فردريك ليست (Frederick List) بشأن إدارة محمد علي في دراسته التي أعدها سنة 1834 م وخصصها لآسيا، أكد فيها: (أن القضية هي ليست قضية عرب، بل قضية مصير الحضارة الأوروبية في آسيا، فإذا ما تمكن محمد علي من إقامة إدارة ليبرالية استطاع أن يسيطر على هذه البلاد الواسعة حتى الخليج العربي عند مجرى (دجلة والفرات)، ثم يضيف (على المانيا أن تلعب دورًا فعالا في يوم ما، وأن يكون لها نصيب في اقتسام أسيا لخير الحضارة الاوربية ) .

إذًا نحن إزاء بنية فكرية متكاملة وبدلالة هذه البنية يتحدد الموقف الغربي من العرب، لقد صورت هذه المنطقة في حيثيات هذا الفكر باعتبارها خواء مهلهلا، من ثم فهي تفتقد الوحدة الجغرافية والوحدة الإقليمية والوحدة التاريخية والوحدة الحضارية.

إن هذه الرؤية ليست فقط تبريرية، وإنما في حقيقتها مارست عن عمد نوعًا مكشوفًا من التغييب لحقائق معاكسة تمامًا، وتلغي بنظرة استعلائية قرونا طويلة من العطاء الإنساني للحضارة والهوية العربية الإسلامية ومنجزاتها الرائدة في مجالات الفكر والعلوم والفلسفة والمنطق.

في العصر الحديث يؤكد بلفور منذ عام 1910م، في محاضره له التباين، كما يزعم، بين الشعوب الأوروبية والشعوب الأخرى، ولاسيما الشعب العربي المصري، ليتخذ منه مبررًا للهيمنة فيقول: الأمم الاوربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذات، لأنها تمتلك مزايا خاصة وهذا ما يفتقد إليه سكان الشرق) ثم يأتي كرومر فيتحدث عن العروق المحكومة، وهذه حسب قوله: ( لا تمتلك في ذاتها القدرة على معرفة ما هو خير لها ــ الافتقار إلى الدقة ــ الذي يتحلل بسهولة ليصبح انعداما للحقيقة ، في حين الأوربي ذو محاكاة عقلية وتقديرية للحقائق خال من أي التباس ).

بعد كل هذا، أليس من المبرر أن يخضع العربي للغربي؟ أن كرومر كان قد قدم جوابًا، وكان الجواب عمليًّا ، إذ تمثل باحتلال أنكلترا لمصر، ثم تأتي الحرب العالمية الثانية بأبرز نتائجها من صعود الولايات المتحدة الأميركية إلى قمة الهرم الغربي لتصبح مركز القيادة الغربي وتتصدر على غيرها في قيادة الغرب بكل أبعاده الاستعمارية، وهي لم ترث الأبعاد الاستراتيجية في الفكر الغربي فقط، وإنما زادت عليه بتأسيس مفاهيم أميركية جديدة شكلت إضافات لا تخرج في جوهرها لكل ما سبقتها إليه أوروبا، وهذه المرة كان وما يزال الإنسان العربي والوطن العربي هو الهدف كما كان منذ عهد البابا أوربان الثاني .

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.